الزمن مجموعة لحظات .. يمرُّ دهرٌ منها دون أن تجد له ذكر ولا قيمة ولا معان ولا أعراض .. ولكن قد تُسجّل ذاكرة الخلود من بين ذاك الرُّكام من الأزمنة لحظات كانت فيها مواقف ومشاهد ذات ألوان عصيٌّ على الحرف تصويرها ، بقدر ما هو قصيٌّ عليها إدراك معانيها .. وفي أقصى حالات الدّراية والأمانة يكتفي التّاريخ والنقل بصور أو مشاهد تأخذ بمظاهر الأشياء دون بواطنها ، وسردٍ كليل لن يبلغ حقيقة وصف ما جرى ...
ومن هنا : فإنّ واقعة كربلاء و يوم العاشر من المحرم .. ولو بعد 14 قرنا من النقل والخطب والشعر .. وتلكم الأطنان من الحبر والورق والدموع والدّماء .. لم تُسعفنا من واقع الحال سوى بصورٌ ومشاهد معلولة ومبتورة .. قد نسجتها ذاكرة التّاريخ من بين حبر السلطة والمُلك وورق الدرهم الرنّان وموائد المضيرة .. فكان الحرف منها سقيما ، والمشهد بها عليلا .. تُجترّه ألسن وتُنادي به حناجر عبر المجالس ومن فوق المنابر عبر القرون والأيّام ، دون أن تنفذ إليها ألوان المعاني ، ولا أن تبلغ الخطابة من مضامينها لحقيقة الآيات ..
ولعِظم المكان والرجال والزمان .. لن يكون لهم ذالك أبدا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وبالتالي كانت كربلاء وكان الحسين وصحبه "ع" وكان يوم العاشر .. كلّها مفردات إستثناء في الشكل والمضمون ، ولن يجود بمثلهم الدهر ثانية . لأنهم صنعوا بعين الله تعالى وإرادته ، لتكون تلك اللحظات وتلكم المشاهد علامة خالدة وليكون ذلك اليوم مفردة من أيّام الله المقدّسة .. حيث كانت الكواكب غير الكواكب ، وكانت الأرض غير الأرض ، وكان اليوم من بين الأيام فردا ، وكانت الرّجال غير الرجال ، وكانت النساء غير النساء ، وكان الأطفال غير الأطفال ..
فكانت كربلاء .. أرضُ كرب وبلاء .. ثمّ قُدسٍ وعزاء .. ؟ وكان الحسين "ع" .. وأين للأصلاب أن تحمل مثله أو الأرحام أن تُنجب ندّه ..؟ وكان الصحب والأبناء بين 7 أشهر والسبعين عام جند وأنصار مضوا على درب الشهادة والولاء .. ممّن باعوا الحياة ليحيا الإسلام وخُلق الوفاء ؟ ويومٌ ليس كمثله يوم .. حيث رُزقت فيه السماء بمدامع، والأرض بمسامع ، وانتصر فيه الصريع على الحيّ .. يوم دكّت حصون الجاهلية المستحدثة ، وأزيحت من على الأفق المحمّدي النيّر غيوم السقيفة ، والتي شاءوا لها أن تغشى صفحة الغدير العلوي ، فكان الثمن وكان العزاء .. دماء من أوداج الطُّهر وعلى أرض القدس وفي يوم حُرم .. عربون فداء .
.. وعندها يُمسك القلم عن الوصف المكان لعلمه بعجز صاحبه ، وإن كان من قبل مسترشدا عالما . والزمان قد يقنع من الحرف بالصورة الباهتة .. لأنّ مجاله البعيد من يوم العاشر لا يُمكن أن يتعدّى من عقلية بني البشر ، دائرة تصطفُّ عليها حلقات سطحيّة لأحداث ومشاهد في سلسلة آيات ومعجزات عاشورائيّة المكان والزمان .. لكن ربّانيّة النشأة والحكمة ..
إيه أبا عبد الله ... ما أكثر الأقلام والأعلام .. وكلٌّ يبتغي الوقوف عند حياض يومك ليتأمّل من آياتك بقدر الفسحة والإدراك لديه .. ولكن أنَّ له ذلك ..؟ وقد إرتقيت بعطائك الأسطوري على الدنيا : فوق حدودها وفوق مداها .. بعد أن أمسكتَ بقصب الخلود في يوم شهادتك وحيث تجاوز نداءهُ مع الشمس إلى حدّ المشرق ، وإلى حيث يأفل المغرب .. وبين المشرق والمغرب وعبر الأجيال .. كنت كهف المستضعفين والمحرومين عند العزاء .. وكنت الأمل لدى الملهوف وباب الرّجاء .. وكم يطرب الحرف ويستأنس المُدى عند ذكركم أهل الكساء "ع" ...
فسلام الله على كربلاء .. وعلى باطن كربلاء وعلى ظاهر كربلاء وعلى عاشق كربلاء .. ورحمته تعالى وبركاته .